الله والنفس البشرية في القرن العشرين


 كما نرى في الصورة؛ الإنسان يتكون من 3 أجزاء مرتبطة ببعضها البعض:
 1)   الروح: والتي هي العامل الأساسي في التواصل مع الله ومع العالم الروحي
 2)  الجسد: والتي هي العامل الأساسي في التواصل والتفاعل مع العالم المادي (الأرض والماديات)
 3)   النفس: والتي تربط بين الروح والجسد ، والتي هي مصدر: الفكر و الإرادة والمشاعر.

والإنسان منذ خلقته الأولى وهو مخلوق على صورة الله: في الفكر ، والإرادة والمشاعر والحرية والقداسة ..إلخ. ولكن بمجرد سقوط الإنسان وخروجه من جنة عدن وقد تشوهت هذه الصورة :

-         فالروح أصبحت ميته في رفضها للتواصل مع الله ومحبتها للخطية
-         والجسد أصبح عليل .. يمرض ويموت
-         والنفس أصبحت عليلة .. مضطربة .. متشامخة ... منقسمة ومنفصله عن ذاتها وعن الله...

لذا جاء المسيح إبن الله أخذا صورة إنسان لكيما يصلح من هذا التشوه ويعطي للإنسان طبيعة جديدة تمكنه من التواصل من جديد مع الله ... والتواصل مع نفسه . فبالمعمودية يولد فينا إنسان جديد محب للبر والفضيلة والقداسة، ونأخذ سلطان للموت عن الطبيعة القديمة (الإنسان العتيق). 

فهل بذلك إنتهت القصة ورجعنا مثلما كان أدم في جنة عدن؟
بالطبع لا، لكن أصبح هذا الإنسان الذي جدده المسيح ونقله من الموت للحياه أصبح يحمل في دواخله حالة من الصراع والجهاد طوال الوقت ؛ لأنه على الرغم من موته عن الإنسان العتيق؛ إلا أن هذا الإنسان العتيق يظل كامنا فيه مثل الثعبان النائم الذي ينتظر أي فرصة ضعف لكيما يسقطه في قبضته :
"فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. إِذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رومية 7)

نعم فالإنسان مسنود بالنعمة الإلهية طوال حياته على الأرض ولا يجاهد بقوته، ولكن هذا لا يلغي دوره في ضرورة الجهاد والصراع طوال الوقت:
-         فعندما تفتر الروح الإنسانية وتضعف: تذهب إلى الله ليشعلها من جديد ويجددها
-         وعندما يمرض الجسد: يطلب من الله الشفاء، ولكنه ايضا يؤمن أن الله سمح بوجود الأطباء والأدوية (يعطي الطبيب الدواء والله هو الشافي).

-         ولكن ماذا عندما تمرض النفس ؟؟؟
ظل هذا السؤال غائبا عن الكنيسة على مدار عصور، ففي إعتقادي الشخصي ربما كان الإنسان البسيط - الذي لم يعاصر كل هذا الكم الهائل من التكنولوجيا والضغوط الحياتية اليومية السريع- ربما كان أكثر مقربة من الله (الأب والإبن والروح القدس) وفي تواصل حقيقي معه،؛ لذا كان في تواصله مع الله كان يكشف له الروح القدس كل أغوار نفسه .. ويساعده على فهم نفسه .. وبالتالي التصالح معها ؛ فالتصالح مع الله .. والعكس صحيح.
فمعرفة الله الحقيقية تقربنا من معرفة أنفسنا ومعرفة أنفسنا الحقيقية ستقودنا لمعرفة الله الذي هو أساس معرفة هذه النفس ... فالإنسان يصعب عليه إدراك كل أعماق ذاته بعد السقوط  (يارب أريد أن أعرفك وأن أعرف نفسي/ ق. أغسطينوس).

ولكن مثلما تظهر أمراض وأوبئة جديدة تصيب جسد الإنسان، فيلجأ العلماء إلى صنع تركيبة دواء جديدة .. هكذا أؤمن ان الله سمح لعلماء النفس بإكتشاف وفهم النفس البشرية؛ ليقدموا بذلك خير عون للإنسان المعاصر الذي اصبح لا يعرف كيف يهدأ ليجلس مع نفسه ومع الله ليفهمها ويكتشفها ... وليساعدوه في مواجهة وابل الأمراض النفسية الكثيرة التي نتجت نتيجة سوء المعاملة والتربية .. والتي أدت بالطبع إلى زيادة إنقسام الإنسان عن نفسه ، وعن الأخر، وعن الله ... فكم من الأباء تسببوا في تشوه صورة الله في عيون أطفالهم ... وتسببوا في تشوه صورة الطفل حتى في عيون نفسه ...

لذا، ووعيا من الكنيسة لأهمية هذا العلم الأن وضرورته؛ بزغ علم المشورة المسيحية في الدول الأوروبية؛ ثم دخل للكنيسة المصرية الإنجيلية، ثم إلى الكنيسة الأرثوذكسية في عهد البابا شنودة الثالث (في كنيسة العذراء أرض الجولف، كنيسة مارجرجس بكوتسكا، وكنيسة العذراء بالدقي.
وبمناسبة عيد رسامة قداسة البابا شنوده كأسقف للتعليم يوم 25 سبتمبر 2006، وجَّه عميد معهد الدراسات القبطية الدعوة للعشرة الأوائل من مركزين المشورة (أرض الجولف وكوتسكا) لإستلام شهادات التخرج من يد قداسة البابا شنودة الثالث باعتبارهم يمثلون أول دفعة في كل من المركزين.

ومع ذلك، فهناك شريحة من الناس لابد أن نسلط الضوء عليهم داخل الكنيسة يقاومون ويناقدون مبدأ المشورة المسيحية والذهاب لشخص علماني طلبا للمساعدة ... وكأن العلم والمعرفة ضد الله وضد تعاليم الكتاب المقدس... وكأنك تقول تماما: انه من الخطأ عندما تمرض جسديا أن تذهب إلى طبيب بشري، لان الطبيب الحقيقي هو الله الممثل فقط في الكاهن !! فعندما يلجأ الشخص المتألم إلى أخصائي مشورة طلبا للمساعدة هذا يعني أنه خرج خارج أسوار الكنيسة !! ويشعر بذنب وحمل أخر بالإضافة إلى أحماله الشخصية.. ألا وهي نظرات وكلمات الناس التي بداخل أسوار الكنيسة !!

فهل الكاهن (الذي له سلطان الحل والربط والمساعدة الروحية) له وحده فقط كل الصلاحيات أيضا ليكشف على المرضى جسديا ونفسيا ؟؟؟

فحتى الكاهن الذي كانت وظيفته طبيب... بمجرد أن يرتدي الجلباب الأسود ، ليس من حقه أن يكشف بسماعة على مريض أو يكتب له روشتة علاج، لأنه يعلم الأن أن له دور أخر في شفاء الأمراض الروحية .. اما عن المراض الجسدية والنفسية؛ فبحق يعلم ويقر أن هذا ليس دوره ..

لست أقصد بكلامي الهجوم على الكاهن .. ولكن مواجهة تيار معين يحوي في طياته الهجوم على الأخر ... فطبعا يا حبذا لو الكاهن أخذ دراسات وأصبح مٌلم بالأمور الروحية والنفسية معا (مثل أبونا بيشوي كامل الذي دخل كلية تربية علم نفس بعد ان كانت دراسته في كلية العلوم)؛ فهو بذلك يقدم خدمة هائلة لشعبه ومخدوميه .. ولكن إذا لم يدرس ... هل سينكر دور الأخرين .. ام سيطلب المساعدة ؟؟؟! فكثير من المشاكل الروحية لها أساس نفسي ... واحيانا جسدي !!


وهذه الشريحة من اسلوب التفكير لاتؤكد سوى عدم فهمها او معرفتها بهدف المشورة المسيحية ..
فالمشورة المسيحية لها اساسيات .. منها:
1-   بالطبع – كما من إسمها – تُقدم بواسطة شخص مسيحي معه شهادة علمية من مكان معتمد.

2-   المشورة المسيحية لا ترفض ما قدمه علماء النفس، ولكنها تأخذ من علم النفس كل ما يتفق مع مفاهيم وتعاليم الكتاب المقدس وترفض كل مالا يتفق معها .. فالمشورة المسيحية لا تلغي عمل الله أو تستبدله

3-   المشورة المسيحية تقدم ما لايقدمه الوعظ العام على المنابر .. فالمسيح كان يعلم الجموع، ولكن كان أيضا له لقاء شخصي جدا مع انفس الكثيرين ليعطي الشفاء بشكل شخصي بما يتناسب مع ظروف ومشاكل الشخص الذي يتحدث معه. فالوعظ بمفرده لا يكفي .. فلابد من الدخول في حياة الموعوظين لمساعدتهم على فهم مشاكلهم ومساعدتهم..  لإزالة الحواجز والعقبات لتنفيذ ما يسمعونه في الوعظ .

4-   هدف المشورة المسيحية الحقيقية ليس فقط حل المشاكل أو تفهم النفس وتصحيح المفاهيم وتقويم الفكر.. فكل هذا من اهدافها .. ولكنه ليس كل أهدافها، فهدفها النهائي والأساسي بعد كل هذا هو: خلاص النفس وإلتصاقها بالمسيح .... فالمسيح يطلب من الإنسان ان يقدم ذاته ذبيحة

5-   ولكن كيف يقدم شخص شئ لا يمكله ... فالإنسان المضطرب والغير متصل مع نفسه لا يملك نفسه حقيقةً ليقدمها لأي شخص، لذا تقدم المشورة المساعدة لتصالح هذا الإنسان مع نفسه .. ليمتلكها ... وعندما تقدم في المراحل اللاحقه الله ليعرفه ويحبه؛ يستطيع عندئذ ان يقدم الإنسان ذاته ذبيحة للخالق الذي تعرف عليه الإنسان المعافى وأحبه ..  معرفه حقيقية وحميمية.. وليس معرفة شكلية سطحية.

هناك كلام كثير عن المشورة المسيحية ... ولكننا فقط هنا تناولنا ما يخص الجزء الخاص بالهجوم على هذه الأداة التي يستخدمها الله في شفاء الكثير من النفوس المتعبة والمحطمة من تيارات العالم و الحياة.

لذا يجب على الكنيسة أن تنشر الوعي، وتكمل الرسالة التي بدأها قداسة البابا شنودة .. وتهتم برعاية قطيعها بشكل شخصي .. بالإقتراب منهم.. والتعرف على مشاكلهم .. وتقديم المساعدة لهم بما يتناسب مع حالتهم .. إقتراب ليس فقط لحل المشاكل الأرضية من أكل وشرب وسكن.... لكن الأهم: مساعدتهم على فهم أنفسهم ... ومساعدتهم في تجديد شكلهم بتجديد ذهنهم.. ليحضروا كل إنسان كاملا في المسيح يسوع .. نفسيا وروحيا وجسديا.

@Jackie .Y.G